فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وإذا بدّلنا} أي: بقدرتنا بالنسخ {آية} سهلة كالعدّة بأربعة شهور وعشر وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقة كتحريم الخمر وإيجاب الصلوات الخمس فجعلناها {مكان آية} شاقة كالعدّة بحول ومصابرة عشرة من الكفار أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر والتبديل رفع الشيء ووضع غيره مكانه {والله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة {أعلم بما ينزل} من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو غيره {قالوا} أي: الكفار {إنما أنت} يا محمد {مفتر} أي: متقوّل على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وهو جواب إذا. {والله أعلم بما ينزل} اعتراض، والمعنى: والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك ومصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم إنما أنت مفتر، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزل فما لهم ينسبون محمدًا إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ {بل أكثرهم} وهم الذين يستمرّون على الكفر {لا يعلمون} حكمة فائدة النسخ والتبديل ولا يميزون الخطأ من الصواب، فإن الله تعالى أعلم بمصالح العباد كما أنّ الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدّة ينهاه عنها، ويأمره بغيرها بضدّ تلك الشربة، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالردّ عليهم بقوله تعالى: {قل} لمن واجهك بذلك منهم {نزّله} أي: القرآن بحسب التدريج لأجل أتباع المصالح بإحاطة علم المتكلم به {روح القدس} أي: جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير، والمقدّس المطهر من المآثم {من ربك بالحق} أي: متلبسًا بالحكمة {ليثبت الذين آمنوا} أي: ليثبت بالقرآن قلوب الذين آمنوا فيزدادوا إيمانًا ويقينًا {وهدى} أي: بيانًا واضحًا {وبشرى للمسلمين} أي: المنقادين لحكمك. فإن قيل: ظاهر الآية أن القرآن لا ينسخ بالسنة لقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آية مكان آية} إذ متقضاه أنّ الآية لا تنسخ إلا بأخرى؟
أجيب: بأنّ هذه الآية دلت على أنه تعالى يبدّل آية بآية ولا دلالة فيها على أنه لا يبدّل آية إلا بآية، وأيضًا فجبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالآية، ولما كان المشركون يقولون: إن محمدًا إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله وليس هو من عند الله كما يزعم نزل قوله تعالى: {ولقد نعلم} أي: علمًا مستمرًّا {أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر} واختلف في البشر الذي قال المشركون إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعلم منه فقيل: هو عبد لبني عامر بن لؤيّ يقال له: يعيش كان يقرأ الكتب، وقيل: عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل: عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه خيرًا فكانت قريش تقول: عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة تعلّم محمدًا، وقيل: كان بمكة نصراني أعجميّ اللسان اسمه بلعام، ويقال: ابن ميسرة يتكلم بالرومية، وقيل: سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في تعداد هذه الأسماء والحاصل أنّ القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه، ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه فأجاب الله تعالى عنه تكذيبًا لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب بقوله تعالى: {لسان الذي يلحدون} أي: يميلون إليه أو يشيرون {إليه} أي: أنه يعلمه {أعجميّ} أي: لا يعرف لغة العرب وهو مع ذلك الكن في التأدية غير مبين {وهذا} أي: القرآن {لسان عربيّ مبين} أي: ذو بيان وفصاحة فكيف يعلمه أعجميّ، وروي أنّ الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه.
{إنّ الذين لا يؤمنون} أي: لا يصدقون كل تصديق معترفين {بآيات الله} أي: الذي له العظمة كلها {لا يهديهم الله} أي: لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ثم أخبر الله تعالى أنّ الكفار المفترون بقوله تعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} أي: القرآن بقولهم: هذا من قول البشر {وأولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الكاذبون} أي: الكاملون في الكذب لأنّ تكذيب آيات الله أعظم من الكذب أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين، ولما ذكر تعالى الذين لا يؤمنون مطلقًا أتبعهم صنفًا منهم هم أشدّ كفرًا بقوله تعالى: {من} أي: أيّ مخلوق وقع له أنه {كفر بالله} أي: الذي له صفات الكمال بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر {من بعد إيمانه} بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم {إلا من أكره} أي: على التلفظ بالكفر فتلفظ به {وقلبه مطمئن بالإيمان} فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. روي أنّ قريشًا أكرهوا عمارًا وأباه ياسرًا وأمّه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل ياسر وهما أوّل قتيل في الإسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهًا وهو كاره بقلبه فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كفر فقال صلى الله عليه وسلم: «كلا إنّ عمارًا امتلأ إيمانًا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: ما لك إن عادوا لك فقل لهم مثل ما قلت»..
تنبيه:
في الآية دليل على إباحة التلفظ بالكفر وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازًا للدين كما فعله أبواه ـ، ولما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضًا، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثًا فأعاد جوابه فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له»، واختلف الأئمة في وقوع الطلاق بالإكراه فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى لا يقع طلاق المكره، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقع، واستدل الشافعي بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة].
ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأنّ ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، أي: لا أثر له ولا عبرة به، وقال عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، وقال أيضًا: «لا طلاق في إغلاق»، أي: إكراه ـ، وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحلّ له} [البقرة] وهذا قد طلقها، وأجيب بأنّ الآية مخصوصة بغير ذلك جمعًا بين الأدلة. {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} أي: فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به {فعليهم غضب} أي: غضب لم تبين جهة عظمه لكونه {من الله} أي: الملك الأعظم {ولهم} أي: بظواهرهم وبواطنهم {عذاب عظيم} في الآخرة لارتدادهم على أعقابهم.
{ذلك} أي: الوعيد العظيم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {استحبوا} أي: أحبوا حبًا عظيمًا {الحياة الدنيا} الكائنة الحاضرة الفانية فآثروها {على الآخرة} الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمنون من الضيق والكافرون من السعة {وأنّ الله} أي: الذي له الغنى المطلق {لا يهدي القوم الكافرين} أي: لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل.
{أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين طبع الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه {على قلوبهم} أي: ختم عليها واستوثق، ولما كان التفاوت في السمع نادرًا وحده بقوله تعالى: {وسمعهم} أو بمعنى أسماعهم ليناسب قوله تعالى: {وأبصارهم} فصاروا بعدم انتفاعهم بهذه المشاعر كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون {وأولئك} أي: الأباعد من كل خير {هم الغافلون} عما يراد بهم من العذاب في الآخرة.
{لا جرم} أي: لا شك {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} أي: أكمل الناس خسارة لأنّ الله تعالى وصفهم بست صفات الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله تعالى. الثانية: أنهم استوجبوا العذاب الأليم. الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. الرابعة: أنّ الله تعالى حرمهم من الهداية. الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عن العذاب الشديد يوم القيامة إذ كل واحدة من هذه الصفات من أعظم الأحوال المانعة من الفوز بالخيرات والسعادات ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان في الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب حكم تعالى عليهم بالخسران، ولما ذكر تعالى حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن بقوله تعالى: {ثم إنّ ربك} أي: المحسن إليك {للذين هاجروا} إلى المدينة الشريفة بالولاية والنصر وقوله تعالى: {من بعد ما فتنوا} قرأ ابن عامر بفتح الفاء والتاء على استناد الفعل إلى الفاعل والباقون بضم الفاء وكسر التاء على فعل ما لم يسمّ فاعله وجه القراءة الأولى أنه عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهرًا، وأنهم لما صبروا على عذاب المشركين فكأنهم فتنوا أنفسهم وإن عاد على المشركين فهو ظاهر، أي: فتنوا المؤمنين لأنّ أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردّة والرجوع عن الإيمان فبيّن تعالى أنهم هاجروا {ثم جاهدوا وصبروا} على الطاعة {إنّ ربك من بعدها} أي: الفتنة {لغفور} أي: بليغ الإكرام {رحيم} فهو يغفر لهم ويرحمهم. تنبيه: حذف خبر إنّ الأولى لدلالة خبر الثانية عليه أو مقدّر بما مرّ. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [90].
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ} أي: فيما نزله تبيانًا لكل شيء: {بِالْعَدْلِ} وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم، وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه: {وَالْإِحْسَانِ} أي: التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأن يعفو عنه: {وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} أي: إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء} أي: عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها، كالزنى: {وَالْمُنكَرِ} أي: كل ما أنكره الشرع: {وَالْبَغْيِ} أي: العدوان على الناس: {يَعِظُكُمْ} أي: بما يأمركم وينهاكم: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تتعظون بمواعظ الله، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن، لخير وشر، هذه الآية، وروى الإمام أحمد: أن عثمان بن مظعون مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بفناء بيته. فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: «ألا تجلس؟» فقال: بلى. فجلس. ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابًا، وعن عِكْرِمَة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له: يا ابن أخي! أعد عليَّ، فأعادها. فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبون عليًا، كرم الله وجهه، في خطبهم. فلما آلت الخلافة إلى عُمَر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أسقط ذلك منها، وأقام هذه الآية مقامه، وهو من أعظم مآثره.
قال الناصر: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات، لاحظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعليّ باغ. حيث يقول صلى الله عليه وسلم لعمار {وكان من حزب علي}: «تقتلك الفئة الباغية». فقتل مع علي يوم صفين. انتهى.
ولما فيها أيضًا من العدل والإحسان إلى ذوي القربى، وكونها أجمع آية؛ لاندراج ما ذكر فيها، والله أعلم.
ثم بيَّن تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [91].
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
روى ابن جرير عن بريدة قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. كان من أسلم بايع النبي على الإسلام، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقصوها بعد توكيدها بالأيمان. أي: لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، مما يلتزمه المرء باختياره، كالمبايعة على الإسلام، وعهد الجهاد، وما التزمه من نذر وما أكده بحلف، وعلى هذا، فتخصيص اليمين بالذكر؛ للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية، و{التوكيد والتأكيد}، لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها، والواو في قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} للحال من فاعل: {تَنقُضُواْ} أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفًا، ومعنى: {كَفِيلًا} شهيدًا رقيبًا، و{الجعل} مجاز، فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدًا. قال الشهاب: ولو أبقى {الكفيل} على ظاهره، وجعل تمثيلًا لعدم تخلصهم من عقوبته، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله، كما يقال: {من ظلم فقد أقام كفيلًا بظلمه} تنبيهًا على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب؛ لكان معنى بليغًا جدًا، وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} كالتفسير لما قبله، وفيه ترغيب وترهيب.
تنبيه:
في الآية الحث على البر في الأيمان، وجلي أنها فيما فيه طاعة وبر وتقوى، وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها، وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: «إني، والله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها»، وفي رواية: «وكفَّرت عن يميني». فالحديث في معنى، والآية في معنى آخر. فلا تعارض، كما وهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [92].
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقص. أي: لا تكونوا في نقص الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها، بعد أن أحكمته وأبرمته، فجعلته أنكاثًا، أي: أنقاضًا، جنونًا منها وحمقًا.
ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمَّل، داخل في زمرة النساء. بل في أدناهن، وهي الخرقاء.
وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} حال من الضمير في: {وَلاَ تَكُونُوا} أي: لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها، حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة بينكم: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي: سبب أن تكون جماعة، كقريش، هي أزيد عددًا وأوفر مالًا من جماعة كالمؤمنين: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ} أي: يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى؛ لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: فيتميز المحق من المبطل، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب، وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.
تنيبه:
قال أبو علي الزجاجي، من أئمة الشافعية: في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا، من إبطال الدور؛ لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه. نقله في الإكليل.